جَدِيْس

وقفَتْ في ساحة الأمويين تنظر بعينيها الزرقاوين إلى الأفق..

طار الحمام فجأة مجلجلًا بأجنحته، فارتعد شعرها بنسمةٍ عصفَتْ، ثم غاب الحمام، وغابَتْ جلجلته.

جاءتكمُ الشجر، أو غزتكم حِمْيَر

نادت كثيرًا في قومها (جاءتكمُ الشجر، أو غزتكم حِمْيَر)..

ولكنَّ قبيلتها جَدِيْس لم تسمعها، ففي الأمس قَتل بطلُ القبيلة وفارسُها، الأسودُ بنُ عَفَار، ملكَ قبيلةِ طَسْم، الذي حكمهم وطغى وبغى عليهم، والقبيلة كلها تحتفل ببطلها المغوار، وتعيش نشوةَ الانتصار.

جاءتكمُ الشجر.

يا زرقاء اليمامة، لا بدَّ أنك قد هرمْتِ وخرفْتِ، فعهدُ العبودية قد ولَّى..

بل غزتكمْ حِمْيَر

عن أيِّ حِمْيَر تتحدثين؟ لا أعزَّ من جَدِيس بعد أن قتلت ملك طَسْم الجبار.. استمتعي بالحرية يا يمامة

هل تعرفُ الحرية يا بن عَفَارْ.

ها نحن نعيشها إلّاكِ، أنتِ أسيرة خوفك

جاءتكمُ الشجر، أو غزتكم حِمْيَر يا أسود

في ساحة الأمويين.. ظلَّت تنادي والأسود بن عَفَار يسخر منها..

وهناك خلف أسوار دمشق رجل هارب من أهل الملك المقتول، ذهب إلى التُّبَّعِ اليماني، فوقف كالقزم في قصر التُّبَّع المهيب، يستجدي:

يا مولاي.. إن لاسمك وسلطانك هيلمان ينفث الرعب في الأصقاع، اطلبِ الشام تأتيك طواعية..

وما غايتك؟

الرعب في الشام يا مولاي.. فقد قتلوا سلطتي.. أدركِ الشام يا مولاي قبل أن يموت الخوف.. فلا سلطان بلا خوف..

يضرب التُّبَّع بصولجانه الذهبي الأرض، فيصيب الشام بجيش يمتد من حِمْيَر إلى الأمويين.

مولاي.. وجب عليَّ أن أحذِّرك.

مم؟

إن فيهم امرأة تدعى زرقاء اليمامة، ترى الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، فقد ترانا وتنبه القوم.

ولكن… أين همُ القوم؟

دخلت حِمْيَر دمشق، ووصل التُّبَّع إلى ساحة الأمويين بجيشه، وصاح فيهم:

أبيدوهم، فهم قاتلوا الملك.

فعاث جيشه فسادًا ودمارًا وخرابًا، وباتت ساحة الأمويين مكبًّا للجثث، تصيح فيها زرقاء اليمامة لعلها تستفيق من موتها..

(جاءتكم حِمْيَر.. غزتكم حِمْيَر)

وقف التُّبَّع أمامها بكل هيبته وقال:

إذًا أنت زرقاء اليمامة التي يتحدثون عن حدَّة بصرها

أجل أنا..

ولكنَّكِ لم ترينا هذه المرة

بل رأيتكم، وحذرتهم فلم يسمعوا منّي، وظنُّوا أنني قد فقدت البصيرة، يا ليتهم صدّقوني، لكنتَ الآن تتلظَّى بنارك.

صدّقتم أنّكم تقدرون على الملوك..

بل صدّقنا أنّنا يمكن أن نحقق المستحيل في الثورة على كلّ طاغية، كان الحلم بين أيدينا في أن نعيش الحرية من الذلّ والعبوديّة

ها.. وماذا وجدتم؟

وجدنا أنّ الأحلام تقتلها الخيبات

أنا الملك حسَّان، أعلن نهاية الأحلام، والمُلك لصاحب القوة يااا.. يمامة. أيها الجند.. اقلعوا عيني هذه المرأة، وآتوني بهما، ثم اصلبوها.. وعلّقوها على سور دمشق.

في ساحة الأمويين تعفنت جثث أهل جَدِيْس، وحطَّ الذباب غيمة سوداء.

وعينا زرقاء اليمامة تنزف دمًا ودمعة.

النهاية

 

مشاركة: