ليست ثمَّة قضيَّة تشغل حيزًا واسعًا في الخطاب السياسي العربي كالقضيَّة الفلسطينيَّة، نظرًا إلى امتدادها الزمنيِّ الطويل وتداخلاتها وارتباطاتها وتأثيراتها، ولأنَّها واحدة من أعقد القضايا في العالم. لكن ليس هناك ما هو أصعب من الكتابة السياسيَّة في لحظة يتعرض فيها البشر للقصف الوحشيِّ والقتل والتشريد وافتقاد الغذاء والدواء والأمن، إذ تصبح مشاعر الجميع تجاه الكلمات والأفكار أكثر حساسيَّة، ويُصبح الجميع طامحين إلى حلولٍ سريعةٍ ومباشرةٍ للظلم الواقع عليهم، وهذا طبيعيٌّ ومفهومٌ ومقدَّرٌ.
إنَّ الكتابة بصورة عقلانيَّة عن القضيَّة الفلسطينيَّة غير مشروطة بالحياد. إذ لا يمكننا، عربًا وفلسطينيين، أن نكون محايدين تجاهها أصلًا. ومع ذلك يمكننا أن نكون إلى جانب فلسطين وشعبها، وأن نكتب عنها بصورة موضوعيَّة في آنٍ معًا. الشعبويّة العربيَّة والإسلاميَّة المناصرة لفلسطين لا خير فيها، وتلتقي في الحصيلة، من حيث الضرر الذي تسبِّبه، مع المواقف والأفعال العربيَّة التي تدَّعي العقلانيَّة في دعوتها، الظاهرة أو المبطنة، إلى إدارة الظهر للقضيَّة الفلسطينيَّة؛ هذه القضيَّة لن تتركنا إن تركناها، هذا إن كان بإمكاننا تركها أصلًا، لأسباب جيوسياسيَّة واقعيَّة، إلى جانب كونها قضيَّة إنسانيَّة وعربيَّة.
عمليَّة طوفان الأقصى
تشبه عمليَّة طوفان الأقصى، من حيث كونها عمليَّة نوعيَّة من جهة، وتأثيراتها من جهة ثانية، حوادث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 التي دفعت بأميركا إلى إعلان “الحرب على الإرهاب”، ومن ثمَّ غزو أفغانستان والعراق واحتلالهما، وهذا يفسِّر طبيعة الردِّ الإسرائيلي المتوحِّش وحجمه ومداه، لكنَّه بالطبع لا يشرعنه، ولا يجعله مقبولًا على أيِّ مستوى من المستويات، ولا سيَّما الإنسانيَّة والأخلاقيَّة. إضافة إلى أنَّ إسرائيل نفسها مسؤولة مسؤوليَّة مباشرة عن ردّات الفعل الفلسطينيَّة العنيفة بحكم جرائمها السابقة المستمرَّة ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وحصارها لهم لنحو عشرين عامًا.
لقد ظهر بوضوح أنَّه لا تتوافر لدى حركة حماس حسابات سياسيَّة عقلانيَّة، على أقلِّ تقدير من حيث توقُّعاتها لردَّة الفعل الإسرائيلية، مداها وحجمها، وتوقُّعاتها لأدوار الداعمين (شعارات المعركة الشاملة ووحدة ساحات المقاومة وجبهاتها)، فضلًا عن عدم إدراكها أنَّ ممارسة الاختطاف وتعريض حياة الأطفال وكبار السنّ، والمدنيين عمومًا، أعمالٌ غير مقبولةٍ، ومدانةٌ، ولا تخدم القضيَّة الفلسطينيَّة. يُضاف إلى ذلك عدم اكتراثها للمجتمع الغزَّاويِّ وخياراته الذي لم يكن جاهزًا لأيِّ حرب ولا مجهَّزًا لأيِّ معركة، ولا سيَّما أنه يعاني فقرًا شديدًا وارتفاعًا غير مسبوق في البطالة وعزلة اجتماعيَّة وسياسيَّة وجغرافيَّة نتيجة الحصار الإسرائيليِّ لقطاع غزَّة منذ عام 2007، إضافة إلى حالة من الإنهاك الشديد بحكم الجولات العسكريَّة السابقة.
كان متوقَّعًا أنَّ إسرائيل لن تقبل بوجود أيِّ تهديد أمني فلسطيني لها، وإن الإفراط غير المسبوق في ممارسة التدمير والقتل في غزة هو، في الحدِّ الأدنى، لمنع أيِّ هجمات مستقبليَّة مماثلة، بإنذار أطرافها بتكلفة بشريَّة وماديَّة هائلة. ما تفعله إسرائيل في غزة تجاوز الردَّ العسكريَّ والانتقام من حركة حماس والقضاء عليها بحسب ما أعلنت، فما تفعله هو إبادة جماعيَّة وحشيَّة لا يردعها أيُّ رادع، ومحاولة لتأسيس وضع عسكري جديد، يمنع أيَّ عملٍ مقاومٍ مستقبليٍّ من أيِّ نوع، بما في ذلك إرادة المقاومة على المستوى النفسيِّ عند الفلسطينيين في غزَّة وسواها.
لا شكَّ أنَّ هناك خسارات إسرائيليَّةً كبيرة، بشريًّا وماديًّا، وغير معتادة، لكنَّها متوقَّعة في ظلِّ هذا النوع من الحرب، فعند دخول أيِّ جيش، مهما بلغت تقنياته درجة عالية من التطور، إلى منطقة مأهولة بالسكَّان، وذات كثافة عالية، وتضمُّ مجموعات مسلحة، سيتعرض بصورة أكيدة لخسائر من هذا النوع. لكنَّ هذه الخسائر لا تُقارن بالخسائر التي تعرَّض لها الفلسطينيون، فقد أدَّى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى كارثة غير مسبوقة على المستوى الفلسطيني هي الأكبر والأعنف منذ النكبة في 15 أيار/ مايو 1948.
في نهاية الحرب أو بعدها، ستكون هناك عمليَّة سياسيَّة بالضرورة، محدودة بالطبع، وإن جوهر هذه العمليَّة المتوقَّعة، والمقبولة أميركيًّا وأوروبيًّا، وحتى عربيًّا -الأنظمة العربيَّة- على نطاق واسع، هو استبعاد الحركات الفلسطينيَّة المسلحة، فيما سيكون إيجاد حلٍّ عادلٍ وشاملٍ لقضيَّة الشعب الفلسطينيِّ مسألة غير ملحَّة أو غير ذات أهمية على جدول أعمال الجميع. ربَّما تقضم إسرائيل جزءًا من قطاع غزة في نهاية الحرب، ولا سيَّما في قسمه الشمالي، وهذا سيفرض مزيدًا من الضغط على الفلسطينيين في القطاع، فضلًا عن الحصار والقصف والتجويع والقتل، بهدف دفع أجزاء متزايدة من الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع.
وممَّا لا شك فيه أنَّ انتقاد حركة حماس بصفتها عضوًا في المحور الإيرانيِّ هو انتقاد صحيح، لكنَّه انتقادٌ أعورٌ لأنَّه يتجاهل التخلِّي العربيِّ الرسميِّ الفعليِّ عن القضيَّة الفلسطينيَّة، ومثله الانتقاد الذي ينطلق من الأيديولوجية التي تتبناها، وكأنَّ الأيديولوجيَّات الأخرى السائدة في المنطقة العربيَّة قد أفلحت أو هناك احتمال في أن تفلح. لكنَّ ما هو غير مقبول في هذا السياق هو، من جهة أولى، إسباغها الصفة الدينيَّة على صراعٍ سياسيٍّ مثل الصراع الفلسطينيِّ/العربيِّ-الإسرائيليِّ، وهو ما يلتقي فعلًا مع ما يريده اليمين الإسرائيليِّ المتطرف. ومن جهة ثانية، وسم هذا الصراع بالقداسة بما يجعل خاتمته بالنسبة إلى الطرفين اجتثاث الآخر وإبادته، ومن ثمَّ منع نقاشه جديًّا والبحث عن حلول سياسيَّة له.
لكنَّ النقد الرئيس لحماس هو استبدادها وافتقادها إلى العقلانيَّة السياسيَّة، مثلها في ذلك مثل بقية السلطات العربيَّة بما فيها السلطة الفلسطينيَّة في رام الله؛ قيل إنَّ أحد أهداف عملية طوفان الأقصى هو إيقاف قطار التطبيع، لكن ربَّما تقود العمليَّة، والعدوان الإسرائيليُّ بعدها على غزة، في اعتقادي، إلى العكس، أي تسريع هذا القطار. وقيل إنَّ حماس قد غيَّرت قواعد الاشتباك؛ لكنَّ حركة حماس –في حال استمرَّت الهجمات الإسرائيليَّة العنيفة، واستمرَّت المواقف الدوليَّة الرسميَّة على ما هي عليه- قد لا تبقى بعد انتهاء العدوان الإسرائيليِّ، أو قد تبقى لكنَّها ستكون ضعيفة ومنزوعة من الأسلحة الفعَّالة القادرة على إلحاق الأذى أو الضرر بإسرائيل، وربَّما لن يجد الحماسيُّون الباقون، أو غيرهم، أرضًا فلسطينيَّة تصلح لأن تشكل نقطة انطلاق لعمليَّات مستقبليَّة ضدَّ الاحتلال.
خيارات فلسطينيَّة وعربيَّة في اللحظة الراهنة
لا شكَّ أنَّ العجز العربيَّ في أعلى درجاته؛ عجز على مستوى الحكومات (حكومات خارج المجتمع الدولي)، ومستوى الشعوب (الشعوب خارج ميزان الرأي العام العالمي المؤثِّر)، ولا يُتَوقع أن يستطيع الفلسطينيون تحقيق إنجازات كبيرة ما دام محيطهم العربيُّ على هذه الحال. لا بدَّ من إعادة تثبيت البُعد العربيِّ للقضيَّة الفلسطينيَّة، بعد أن هُمِّش هذا البُعد بسبب محطات وحوادث عديدة؛ الخذلان الذي لحق بالفلسطينيين بدءًا من أيلول الأسود 1970 الذي انتهى بخروج الفدائيين إلى لبنان، مرورًا بتل الزعتر ومجازر صبرا وشاتيلا وغيرها، والعبث بحركة فتح وشقها وطردها من لبنان 1982، واتفاقات كامب ديفيد 1978، واتفاق أوسلو 1993 الذي ذهب إليه ياسر عرفات مجبرًا بعد إغلاق جبهات المقاومة في دول الطوق، وقبل هذا كلِّه كانت محطة حرب حزيران/ يونيو 1967 لحظة مفصليَّة في تاريخ القضيَّة الفلسطينيَّة؛ حيث تخلّت الأنظمة العربيَّة بعدها عن القضيَّة فلسطينيَّة تدريجًا، ووضعتها بين يدي منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة وحسب.
صحيح أنَّ هذا الأخير كان مطلبًا فلسطينيًّا نتيجة الصراع بين الأنظمة العربيَّة (صدام حسين وحافظ الأسد مثلًا) على الاستثمار في القضيَّة الفلسطينيَّة، لكنَّ هذا التمثيل الفلسطينيِّ المستقل لا ينبغي له أن يعني غياب الدور العربيِّ، الرسميِّ وغير الرسميِّ، تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة؛ هذا الدور العربيِّ الذي نشدِّد عليه يجد مسوِّغاته في الاعتبارات الجيوسياسيَّة الموضوعيَّة التي لا يُمكن إنكارها أو الفكاك منها في المنطقة، وليس دفعًا أو تحريضًا من أيديولوجيَّات قوميَّة أو يساريَّة، شعاراتيَّة ومغلقة. إنَّ القول “فلسطين أكبر من أيدي الفلسطينيين” ما زال صحيحًا على الرغم من كونه كلامًا قديمًا ومكرَّرًا، إضافةً إلى أنَّ القضية الفلسطينية ذاتها تشكِّل جزءًا من الصراع العربي الإسرائيلي ولا تستنفده.
لعلَّ أسوأ ما حصل للقضيَّة الفلسطينيَّة أنَّها، بحكم العجز العربي الشامل، قد تحولت إلى قضيَّة إيرانيَّة أو إلى قضيَّةٍ مُهيمَنٍ عليها إيرانيًّا، تُستَخدم في سوق المزايدات والمقايضات الإيرانيَّة، ما جعلها فعليًّا بين فكي كماشة طرفاها يبزّان بعضهما بعضًا في السوء والأذيَّة.
ربَّما يكون أهم خيار منتج فلسطينيًا في اللحظة الراهنة، في الضفة والقطاع وخارج فلسطين، هو الذهاب باتجاه إنتاج تمثيلٍ سياسيٍّ موحَّد للشعب الفلسطينيِّ، وهنا ربَّما تكون الخطوة الأهم التي يمكن أن تخطوها حركة حماس، إن هي أرادت أن تخرج بالقضيَّة من سوق اللعب الإقليميِّ من جهة، ومن الصراعات ذات الطابع الدينيِّ والأيديولوجيِّ من جهة ثانية، هي الدعوة إلى التشارك في إنتاج هذا التمثيل، فهذا من مصلحتها ومصلحة جميع الفلسطينيين والقضيَّة الفلسطينيَّة.
لكن، على الرغم من أهميَّة وجود تمثيلٍ سياسيٍّ فلسطينيٍّ شامل ومستقل عن المحاور الإقليميَّة، فإنَّ إيجاد حلٍّ عادل وشامل لا يتوقَّف على الفلسطينيين وحدهم، وستظل القضيَّة الفلسطينيَّة بأمسِّ الحاجة إلى دورٍ عربيٍّ فاعل، لكن هذا الدور يتوقَّف من جهة أولى على تحديث دول الطوق العربيَّة ودمقرطتها على أقلِّ تقدير، أي على تحويل هذه الدول إلى دول وطنيَّة ديمقراطيَّة، ومن جهة ثانية على وجود إستراتيجيا عربيَّة تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة وسبل حلِّ الصراع.
المهمَّات والأدوار السابقة استراتيجيَّة الطابع، أما في الوقت الحاليِّ، وفي المدى المنظور، فإنَّ كلَّ معركة يخوضها الفلسطينيون والعرب مع إسرائيل ستكون هزيمة محقَّقة لهم. في اللحظة الراهنة، يتمثَّل ما هو ممكن بالعمل على قيام النظام العربيِّ الرسميِّ بالحدِّ من الاستثمار الإيرانيِّ في القضيَّة الفلسطينيَّة، ورهن أيِّ خطوات تجاه إسرائيل بتحقيق حدٍ أدنى من الحقوق الفلسطينيَّة، والعمل على الجبهة الإعلاميَّة وجبهة المجتمع المدنيِّ في الغرب، وهذا كله يصبُّ في مصلحة فلسطين والنظام العربيِّ الرسميِّ نفسه على الرغم من تهافته.
الرأي العامُّ العالميُّ والمصالح الدوليَّة
تجاهلت الحكومات الغربيَّة حقوق الفلسطينيين زمنًا طويلًا، وتتلخَّص رؤيتها بأنَّ إسرائيل ضحيَّة للإرهاب، وتتعرَّض لهجمات عسكريَّة، ولكراهية غير عقلانيَّة، وأنَّ إسرائيل دولة تنتمي سياسيًّا واقتصاديًّا إلى الغرب المتقدِّم، مقارنة بجيرانها المتخلِّفين على المستويات كافَّةً. وكانت بعض النقاط التي نراها بدَهيَّةً، تبدو عصيَّة على الفهم في الغرب؛ مثلًا، إنَّ نقد الصهيونية، والوقوف ضدَّ الاحتلال الإسرائيليِّ ومساندة الشعب الفلسطينيِّ، أمورٌ لا علاقة لها بكراهيَّة اليهود والعداء للساميَّة، وإنَّ “إسرائيل القديمة” التي ترتكز عليها الحركة الصهيونيَّة في دعايتها لم تكن إلَّا مرحلة عابرة في مسار التاريخ الفلسطينيِّ الذي تعاقبت فيه دولٌ وحضاراتٌ كثيرة على أرض فلسطين.
كان المكسب الفلسطينيُّ الواضح، والمهم، بعد 7 أكتوبر 2023، هو حدوث تغيُّر نسبيٍّ في الرأي العامِّ العالميِّ، أميركيًّا وأوروبيًّا بصورة خاصَّة، في النظر إلى إسرائيل والقضيَّة الفلسطينيَّة، والبدء بتفكيك السرديَّة الإسرائيليَّة وفضِّ الاشتباك بين اليهوديَّة والصهيونيَّة ومُساءلة الصورة النمطية للفلسطينيين ودحضها وإظهار زيفها، على الرغم من مرور زمن طويل في الغرب كانت الغلبة فيه لأولويَّة أمن إسرائيل المهدَّدة من جيرانها الإرهابيين، وتجاهل حقوق الفلسطينيين والعرب، والتخويف منهم، إلى درجة أصبح فيها الوقوف مع إسرائيل مسألة أخلاقيَّة بالنسبة إلى الغرب شعوبًا وحكومات.
كانت وحشيَّة إسرائيل في عدوانها على غزَّة السبب الرئيس للتظاهرات المتضامنة مع غزَّة، لا دفاعًا عن حركة حماس أو قناعة بها، بل دفاعًا عن الحقِّ والعدالة، ودفعًا للباطل والظلم. وهنا لا بدَّ من التنويه إلى الجهد الكبير الذي بذلته كوادر فلسطينيَّة وعربيَّة وغربيَّة في أميركا وأوروبا. هذا الافتراق النسبيُّ في الرؤية بين المجتمع السياسي في الغرب الذي تجسِّده الدولة، والمجتمع المدنيِّ الذي تشكِّله الجمعيَّات المدنيَّة والحقوقيَّة والطلابيَّة، ليس مسألةً بسيطةً، لأنَّ المجتمع الغربيَّ فاعل، وقادرٌ على التأثير، وهو الذي يمنح الدولة هناك قوَّتها بدرجة ما.
ما يمكن أن يساعد الفلسطينيين حقًّا هو بناء رأيٍّ عامٍّ عالميٍّ مناصر للقضيَّة الفلسطينيَّة، لا روسيا ولا إيران ولا “محور الممانعة والمقاومة”. والمعنى الحقيقيُّ والواقعيُّ لمفهوم “الرأي العامِّ العالميِّ” هو رأي الأوروبيين والأميركيين. فالرأي لا وجود له إلَّا في أميركا وأوروبا، أما بقيَّة سكان العالم فلا رأي لهم بحكم أنَّهم تحت سطوة أنظمة مستبدة –مع ملاحظة التفاوت في مستويات الاستبداد- لا تسمح للبشر بالتعبير عن آرائهم، وإن سمحت في لحظات معيَّنة فإنَّ هذا يكون بدافع مصلحتها أو في الحصيلة لا تكترث لهذا الرأي.
ينبغي للعرب والفلسطينيين القيام بعمل يمنع أن يكون هذا التغيُّر عابرًا. هذا التغيُّر يحتاج إلى طرف سياسيٍّ فلسطينيٍّ موحَّد ومتماسك قادر على استثماره وتطويره والبناء عليه، أو طرف عربيٍّ مركزيٍّ قابل وقادر. ويحتاج أيضًا إلى رعاية خاصة بالحفاظ على محرِّكه الإنسانيِّ، وإلى انتباه شديد إلى عدم أسلمته وإغراقه بشعارات دينيَّة ستؤدي بالتأكيد إلى خسارته، كما حصل مع الثورة السوريَّة التي فقدت زخمها ودعمها عندما تأسلمت وفقدت طابعها السلمي. وأخيرًا، لعلَّ المسألة المركزيَّة هنا، فلسطينيًّا وعربيًّا، هي البحث عن الكيفيَّة التي يمكن من خلالها لتعبيرات المجتمع المدني الداعمة هذه أن تجد صداها لدى الحكومات والمجتمع السياسيِّ في الغرب.
هزيمة عربيَّة مزمنة
هناك محوران يحكمان منطقتنا منذ نصف قرن، يرتكزان في حركتهما، بصورة رئيسة، على القضيَّة الفلسطينيَّة؛ المحور الأول هو محور “الممانعة والمقاومة”، والثاني هو “محور التطبيع”. ويتسابق كلُّ واحد من هذين المحورين مع الآخر من دون كللٍ أو مللٍ للحصول على التصنيف الأسوأ في كلِّ شيء، أمَّا حصيلة سباقهما الواقعيَّة، بعيدًا من الغوغائية الإعلاميَّة لهما معًا، فكانت تعميق ثلاثيَّة الاحتلال والاستبداد والتطرف. فمع هذه الثلاثيَّة القاتلة كانت بقية الأمور، وما تزال، تفاصيل لا قيمة لها: الإنسان، المواطن، حقوق الإنسان، الحياة الطبيعيَّة، الديمقراطيَّة، العدالة، الفاعليَّة الاقتصاديَّة، الثقافة، العلم والتعليم، التنمية البشريَّة، السلم الأهلي… إلخ. وما يزيد الطين بلَّة أنَّ معظم “المعارضات” السائدة في المنطقة، أكانت تلك التي تعارض “محور الممانعة والمقاومة” أو تلك التي تعارض “محور التطبيع”، صبَّت جميعها، في المآل، في أحد المحورين، خطابًا وممارسةً، ما يجعلها شريكة أيضًا، بدرجات متفاوتة، في إذكاء ثلاثيَّة الاحتلال والاستبداد والتطرف، وفي تعميقها وتجذيرها.
ويبدو أنَّ المنطقة كلَّها ستظل تدور إلى أمد غير معلوم في فلك هذه الثلاثيَّة/ الكارثة ومنتجاتها: مزيد من الطغاة، والحروب، والاحتلالات، والجماعات المتطرفة قوميًّا ودينيًّا وطائفيًّا، وتجذّر الاستبداد على جميع المستويات، إخفاق التنمية الاقتصاديَّة وتزايد في الفقر وإمعان في الإفقار، وهامشيَّة على المستوى الدولي، قتلى، جرحى، تشريد ولجوء ونزوح واعتقال… إلخ، وفي الحصيلة افتقاد الإنسان في هذه المنطقة إلى أيِّ أفق بالخلاص. لا خلاص من دون عمل يقطع جذريًّا، خطابًا وممارسةً، مع ثلاثيَّة الكارثة ومنتجاتها وأصحابها.
شكَّل هذا الواقع، ولا يزال، أرضيَّة مولِّدة للهزائم باستمرار “القابليَّة للهزيمة”، ما يعني أنَّنا سنظل عرضة لتلقي هزائم أخرى، ولن يكون العدوان الإسرائيليُّ على غزَّة آخرها ما دامت هذه “القابليَّة” راسخة الجذور في واقعنا، خاصة لجهة غياب الدول الوطنيَّة الديمقراطيَّة الحديثة.
لقد تاجرت الأنظمة السلطويَّة في القضيَّة الفلسطينيَّة كثيرًا لمنع الاستحقاقات الديمقراطيَّة، واستخدمتها سلاحًا لقمع المعارضين واتهامهم بالخيانة الوطنيَّة والعمالة لإسرائيل والغرب، واختزلت المعركة مع إسرائيل إلى حيز المعركة العسكريَّة، ولم تأخذ ميزان القوى بمعناه الشامل الذي يجعل من الجاهزيَّة المجتمعيَّة شرطًا رئيسًا للدخول في أيِّ معركة.
وبنت هذه الأنظمة سياستها الخارجيَّة وفق مصالحها الخاصَّة وبما يضمن استمرارها، وجعلت قرار الحرب والسلم بيدها وحدها بناءً على مصالحها وارتباطاتها وتقديراتها، ولم تكترث للمصالح الوطنيَّة (المصالح السياسيَّة والاقتصاديَّة والاستراتيجيَّة). ولذلك، تتعامل إسرائيل مع القدرة المتدنية للأنظمة السلطويَّة على الفعل والعمل وحسب، بحكم تغييب الدول والمجتمعات العربيَّة ومحاصرتها بالاستبداد والفقر والجهل، ومن ثمَّ لا تأخذ إسرائيل في حسبانها أيَّ خطوط حمر مجتمعيَّة معارضة للأنظمة. كذلك، فإنَّ التعامل الاستعلائيَّ للإدارات الأميركيَّة مع الأنظمة العربيَّة يعود، بصورة رئيسة، إلى عاملين، الأول: أنَّ هذه الحكومات لا تستند إلى ركائز شعبيَّة في دولها، أي لم تصل إلى مواقعها عبر انتخابات ديمقراطيَّة، والثاني: أنَّ هذه الحكومات، بالاستناد إلى موازين القوى، لا تساوي شيئًا.
تنتعش في الأنظمة السلطويَّة التيارات المتطرِّفة والجهاديَّة، وهذه تسبغ على القضيَّة الفلسطينيَّة طابعًا دينيًّا يسيء إليها، ويضعها في مرتبة القداسة، ويمنع التعامل معها بوصفها قضيَّة سياسيَّة. ولا فرق في ذلك بين التيارات الدينيَّة المتطرفة السنيَّة والشيعيَّة، لأنَّها تتفق في آليات التفكير والجوهر وإن اختلفت في الشعارات والأهداف والاصطفافات السياسيَّة.
تسود في الأنظمة السلطوية، بحكم منع السياسة وتغييب المشاركة المجتمعيَّة، الأوهام السياسيَّة لدى المجتمعات ونخبها السياسيَّة والثقافيَّة، وتصبح قراءاتها وتحليلاتها السياسيَّة خرافيَّة، ومن يخفق في قراءة الواقع يخفق بالضرورة في صناعته أو تغييره. (محلِّلون يرون نهاية إسرائيل بعد طوفان الأقصى). (حتميَّة انتصار الحق). في هذه الأنظمة لا توجد قواعد سياسيَّة يمكن الركون إليها في تحليل المواقف والأداء السياسي: القسم الأكبر من مناصري حماس اليوم، لا الشعب الفلسطيني، في معركتها ضد إسرائيل هم أنفسهم مناصرو نظام الأسد ضدَّ الشعب السوريِّ، وكثير منهم متورط في الدم السوري، ومنخرط في تدمير العراق واليمن ولبنان.
تسود في الأنظمة السلطويَّة معايير غير علميَّة للهزيمة والانتصار أو للربح والخسارة على المستوى السياسيِّ العسكريِّ. نصحو في منطقتنا العربيَّة، كلَّ يوم، على وقع انتصار جديد. لا تكثر الانتصارات إلَّا في بلدان تعيش هزيمة تاريخيَّة مزمنة، وهذا الجوع الشديد إلى الانتصار معناه أنَّ الهزيمة التي تعيشها المنطقة كبيرة وعميقة، وكلما تحدَّثوا عن الانتصارات نشتم رائحة كوارث جديدة. مشكلة المنطقة العربيَّة في كثرة “المنتصرين”، وتجاوز الهزيمة منوط فعلًا برحيل أولئك “المنتصرين”.
معايير النصر والهزيمة مختلفة من طرف إلى آخر بحسب أهداف كلٍّ منهما؛ فقد يكون المعيار بسيطًا أو سطحيًّا بالنسبة إلى أحد الأطراف يتمثَّل بعدد من يقتلهم من الطرف الآخر، من دون النظر إلى عدد قتلاه؛ النصر بالنسبة إلى الحركات الإسلاميَّة وجمهورها، ولدى قطاع عربيٍّ واسع، هو مقدار ما نقتل من الإسرائيليين، بصرف النظر عن عدد قتلانا وخسائرنا! وقد يكون معيار النصر هو القدرة على شلِّ قدرة الآخر على الأذيَّة، أو تحصيل أهداف سياسيَّة أو اقتصاديَّة مهمَّة… إلخ.
تحدث في المعارك والحروب خسارات قابلة للتعويض وأخرى غير قابلة للتعويض، وبمقدار ما تكون هذه الأخيرة واسعة تكون الهزيمة أوسع. قد تحدث بعض المعارك من أجل الهروب من أزمات داخليَّة أو بحكم اليأس وانسداد الآفاق، ولا يُتوقع من المعارك التي دفع إليها اليأس أن تنتج خيرًا. وإنَّ المعارك التي تُخاض من دون أهداف كبرى تُغيِّر حياة البشر إلى الأحسن، تجعل التضحيات البشريَّة والماديَّة بلا قيمة.
في ظلِّ هيمنة المفهومات والمقاربات السابقة على الوعي العامِّ، ووعي التنظيمات السياسيَّة والنخب السياسيَّة والثقافيَّة في المنطقة العربيَّة، تلك التي لا يزيد وعيها كثيرًا على الوعي العامِّ، وأحيانًا ما تمشي في ذيله، فلا أمل لنا بالنجاة، وسنظلُّ نحمل عاهاتنا على أكتافنا، وندور بها من زمن إلى آخر. إنَّ الإقرار بالهزيمة هو نقطة انطلاق محوريَّة في عملية البحث عن مقاربة أخرى لواقعنا، تنقلنا خطوة نحو الأمام.
التفكير في مستقبل القضيَّة الفلسطينيَّة
لقد جُرِّبت حلول عديدة بشأن القضيَّة الفلسطينيَّة خلال ما يزيد على خمسة وسبعين عامًا: التقسيم بحسب قرار الأمم المتحدة في عام 1947، والحروب في الأعوام 1956، 1967، 1973، 1982، والتسوية بحسب قرارات الأمم المتحدة 242 و338، واتفاقيات كامب ديفيد 1979، ومؤتمر مدريد للسلام في عام 1991، واتفاق أوسلو في عام 1993، واتفاق وادي عربة في عام 1994، واتفاق واي بلانتيشن عام 1996، وتطبيع بعض الدول العربيَّة علاقاتها مع إسرائيل، وطُرحت في سياقات مختلفة حلول أخرى، مثل حلِّ الدولتين الذي تضمَّنته مبادرة السلام العربيَّة التي قدَّمها وليُّ العهد السعوديِّ آنذاك، عبد الله بن عبد العزيز، في القمة العربيَّة التي عُقدت في بيروت عام 2002، لكنَّ الحصيلة كانت بقاء القضيَّة الفلسطينيَّة من دون حلٍّ، وبقاء الظلم الواقع على الفلسطينيين، واستمرار الصراع.
لقد تغيَّر الخطاب السياسيُّ العربيُّ كثيرًا إزاء القضيَّة الفلسطينيَّة بدءًا من عام 1948 وحتَّى اليوم. فقد تمحور في الخمسينيَّات والستينيَّات حول شعارات “التحرير الكامل” و”استحالة التفاوض مع العدو” و”الحرب الشعبيَّة”، وتراجع بعد هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967 إلى شعار “إزالة آثار العدوان”، ليتمحور بعد ذلك حول “التسوية” و”السلام”، فيما لا تزال قوى سياسيَّة وعسكريَّة عديدة، إضافة إلى نسبة كبيرة من الشارع العربي، تبني تصوراتها استنادًا إلى المقاومة المسلحة والرفض، واستنادًا إلى التحرير الكامل، لكن على أرضيَّة أيديولوجيَّة مغايرة لأيديولوجيا الخمسينيَّات والستينيَّات؛ أيديولوجيا دينيَّة، سنيَّة أو شيعيَّة، تتناسب طردًا من جهة أولى مع تجذُّر الهزيمة العربيَّة على المستويات كافة، وأمام إسرائيل بصورةٍ خاصةٍ، ومن جهة ثانية مع تحوُّل الخطاب الإسرائيليِّ وتحويل دولة إسرائيل من علمانيَّة ديمقراطيَّة إلى يهوديَّة ديمقراطيَّة، مع جيوب دينيَّة متطرفة أو شديدة التطرُّف، وقد يتبع ذلك ظهور دولة يهوديَّة ثيوقراطيَّة خالصة إذا ما وصل اليمين المسيحيُّ (المتصهين) المتطَّرف إلى السلطة في أميركا والغرب. وفي هذه الحالة علينا ألَّا نستغرب أن يكون الردُّ على التطرُّف الدينيِّ بتطرُّف دينيٍّ مماثل، ما يعني استمرار الصراع إلى المرحلة التي يستأصل فيها أحد الطرفين شأفة الآخر، لأنَّ مبدأ استئصال المخالف والمُضاد مبدأ أصيل في كلِّ أيديولوجيا دينيَّة مغلقة.
هناك مفكرون واستراتيجيون إسرائيليون ويهود جرَّهم التفكير في مستقبل إسرائيل إلى الاقتناع بضرورة التفكير في حلٍّ مقنعٍ ومقبولٍ للشعب الفلسطينيِّ، والأَوْلى أن يفكِّر العرب في هذا الخيار عكسيًّا. فإذا أردنا أن نفكِّر بطريقة استراتيجيَّة في حلِّ القضيَّة الفلسطينيَّة، فإنَّنا ملزمون بالتفكير في حل لـ “المسألة اليهودية” في المنطقة العربيَّة. لقد صدَّرت أوروبا مشكلتها اليهوديَّة إلينا، والعرب مطالبون، بحكم الواقع والمصلحة، بالتفكير في رؤية عقلانيَّة لحلِّ هذه المشكلة. ففي سياق التفكير في حلٍّ لمشكلة الشعب الفلسطيني لا بدَّ من التفكير في حلٍّ استراتيجي لوضعيَّة اليهود في المنطقة، أي أنَّ حلَّ “مشكلتي” يتوقف بالضرورة على مساهمتي، وفاعليَّتي، في حلِّ “مشكلة الآخر”.
على الرغم من الألم الفلسطينيِّ (والعربيِّ عمومًا) بسبب هذا الآخر، إلَّا أنَّ الفلسطينيين (والعرب عمومًا) ملزمون بإبداع حلٍّ ديمقراطيٍّ وإنسانيٍّ للوجود اليهودي في المنطقة، وتصديره وتسويقه والدفاع عنه. هذا تفكير استراتيجيٌّ بعيد المدى، قد يكون مزعجًا لبعضنا في اللحظة الحاليَّة، لكن من دونه لن تستقيم رؤيتنا إلى الصراع الفلسطينيِّ (والعربيِّ عمومًا)-الإسرائيليِّ على قدمين ثابتتين وواضحتين، وستظلُّ تستغرقنا الأحداث والتكتيكات واليوميَّات المتخمة بالدم والألم إلى ما لا نهاية. وفي اعتقادي يستطيع العرب أن يقدِّموا مثل هذا الحلِّ إذا هم أعادوا قراءة تاريخ الصراع قراءة نقديَّة وعقلانيَّة.
هذا التفكير الاستراتيجي مفيد لأنه يضعنا على السكة الصحيحة فلا نتوهم أنَّ المشكلة الفلسطينيَّة سوف تلقى الحلَّ الملائم والعادل عبر المعارك العسكريَّة الصغيرة والكبيرة على حد سواء، المحقَّة وغير المحقَّة، فالمشكلة أعقد كثيرًا من ذلك. وبالتأكيد هذا الكلام خارج تفكير بائعي الأوهام الذين تعجُّ بهم الفضائيَّات العربيَّة من المحيط إلى الخليج.
لقد حدثت معارك عدَّة بين العرب وإسرائيل، وقد تحدث معارك أخرى، لكن خيار حسم الصراع عسكريًّا غير ممكن في الحصيلة، بحكم القوة النوويَّة الإسرائيلية من جهة، وتبني الحكومات الغربيَّة عمومًا لإسرائيل من جهة ثانية. أما التسويات المعروضة حاليًا أو تلك التي يمكن أن تُعرض مستقبلًا، ومن ضمنها السلام المنشود بالمعنى الأميركي الإسرائيلي، فلا تؤسِّس للسلام والاستقرار، وستكون مؤقتة بالضرورة بانتظار جولة أخرى من المعارك، بحكم افتقادها إلى العدالة من جهة، وطبيعة إسرائيل العدوانيَّة من جهة ثانية، والتأخر السياسيِّ العربيِّ من جهة ثالثة.
استراتيجيا عربيَّة: اجتياف إسرائيل
يعني تعبير “اجتياف إسرائيل عربيًّا” إدماج إسرائيل في المنطقة وفق آلية عربية، وهذا أمرٌ يختلف جذريًّا وكليًا عن تطبيع بعض الأنظمة العربيَّة علاقاتها بإسرائيل، لأنَّه يتطلب استراتيجيَّة عربيَّة، وهذه تتطلَّب تغييرًا سياسيًّا عربيًّا، أي ديمقراطيَّة، ومن ثمَّ فإنَّ الاجتياف يأتي من موقع القوة، لا من موقع الضعف كما هو التطبيع المتهافت والخيارات اليائسة عربيًّا؛ بدافع حلِّ أزمات داخليَّة عربيَّة أو بهدف الاندراج في محاور سياسيَّة في مقابل محاور أخرى أو بحثًا عن فوائد اقتصاديَّة محدودة أو استمرار سلطة ما في الحكم بإرضاء أميركا وإسرائيل.
على المستوى النفسيِّ الفرديِّ، يهدف الاجتياف إلى جعل موضوعات العالم الخارجيِّ غير خطرة، من خلال إدخالها إلى الذات وجعلها جزءًا من الهوية النفسيَّة، تمامًا كما يجتاف الطفل صورة الوالدين وخصائصهما. ويمكن تشبيه الاجتياف بالامتصاص أو الابتلاع، إذ يدمج الفرد الموضوع المرغوب بذاته عبر التِهامه، ومن ثمَّ فهو هو يُزيله، لكنَّهُ في الوقتِ ذاته يتمثَّل خصائصه المرغوبة، ويستبعد خصائصه السلبيَّة، ما يعني إعادة تكوين الذات بخصائص جديدة. الاجتياف آليَّة شائعة لدى الفرد في مسار النموِّ الطبيعيِّ لأناه وهُويَّته الذاتية؛ فالمرء لا يفتأ يستدخل خصائص وصفات الأقوى ويستدمجها؛ مقدِّمًا لأناه بذلك، على نحوٍ مستمرٍّ، المادَّة اللازمة لتطوِّرها ونموِّها.
رأى تيودور هرتزل، في كتابه “الدولة اليهودية”، أنَّ مسألة ذوبان اليهود في مجتمعاتهم الأصلية في أوروبا وأميركا وقبولهم من أهلها تشبه ملاحقة السراب، وأن دعوات التنوير الأوروبيِّ وحقوق الإنسان والمواطنة لن تجدي نفعًا في تحوّل اليهود إلى مواطنين حقيقيين في هذه البلدان، وأبدى تذمره من استمرار هذه المجتمعات في نعت اليهود بالغرباء على الرغم من محاولاتهم الدؤوبة للاندماج فيها. ورأى أيضًا أنَّ قضيَّة اليهود لم تعد قضيَّة اجتماعيَّة أو دينيَّة، إنَّها قضيَّة قوميَّة، لا يمكن حلُّها إلَّا إذا أصبحت قضيَّة سياسيَّة عالميَّة، ما قاده إلى إنعاش فكرة يهوديَّة قديمة هي “إحياء دولة اليهود”. وأكَّد أهمية الفكرة في تحقيق أيِّ مشروعٍ، فالفكرة يمكنها أن تنقل أمة من مكان إلى آخر، وإنَّ فكرة إقامة دولة اليهود تمتلك القوة المطلوبة للتحقّق، وتحويل هذا الحلم إلى واقع ملموس. لقد انتقلت “دولة اليهود” فعلًا من فكرة إلى واقع، وقد ساهمت عوامل كثيرة في ذلك.
على الرغم من عدم موافقة كثيرٍ من اليهود على فكرته، وعلى الرغم من معارضتنا لأفكاره بالطبع؛ فإنَّ المفيد في هذا الاستذكار هو الانتباه إلى أهمية الفكرة في بناء المشروع السياسيِّ، حتى لو كانت تبدو في لحظة ما خياليَّة وغير قابلة للتحول إلى واقع من جانبٍ أول، والانتباه إلى معاناة اليهود عندما يُوصفون بالغرباء في مجتمعاتهم من جانبٍ ثانٍ.
قد تبدو فكرة “اجتياف إسرائيل عربيًا” خياليَّةً، ولا تمتلك -على الأقل في اللحظة الحالية- رصيدًا يؤهلها للتحوّل إلى واقع، لكنَّ الأفكار الأخرى المطروحة لا تقلَّ عنها خيالًا؛ ظهر واقعيًا خلال خمسة وسبعين عامًا أنَّ حسم الصراع عسكريًا لمصلحة أحد الطرفين غير ممكن كما أشرنا، وخِيضت معارك وحروب عديدة تحت هذا الهدف أو الرؤية. وظهر أيضًا أنَّ التسويات المختلفة لم تأتِ بالسلام والاستقرار، وأنَّها كانت جولات استراحة لا أكثر بين المعارك. أما حلُّ الدولتين المطروح عربيًّا وعالميًّا على نطاقٍ واسعٍ فهو الآخر أقرب على الوهم؛ فمساحة فلسطين البالغة 27 ألف كيلومتر مربع (المسافة الأقصى من الشمال إلى الجنوب 470 كم، ومن الغرب إلى الشرق 135 كم) أصغر من أن تضمَّ دولتين متجاورتين، وستتفاقم المشكلة عندما تستقبل الدولة الفلسطينيَّة الوليدة اللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار، وفي حال قيام الدولتين فعلًا ستكون الحرب مرجَّحة دائمًا بينهما حتى لو كانت هناك فواصل من الهدوء. ألم يكن الأفق السياسيُّ المغلق أمام الفلسطينيين الدافع الرئيس وراء هجوم 7 أكتوبر الذي هزَّ إسرائيل؟! في غياب الحلِّ الدائم سوف يظلُّ الصراع قائمًا بين الطرفين، وسوف يكون العنف والدم حاضرين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
طُرحت هذه الفكرة “اجتياف إسرائيل” من حيث مؤداها من بعض العرب واليهود، لكنها كانت تفتقد إلى العمق وإلى استكشاف أبعادها ومستلزماتها الضروريَّة والحاسمة عربيًّا. ومنهم العقيد معمر القذافي الذي دعا إلى الدولة الواحدة حلًا للصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل؛ دولة واحدة تضمُّ الفلسطينيين والإسرائيليين تحت مظلتها (دولة إسراطين). على الرغم من أنَّ هذا التصور قد ظهر على يد قائدٍ مستبدٍ وهزليٍّ في آن معًا إلَّا أنَّه تصوّر مشروع. لكنَّ فكرة “اجتياف إسرائيل” كتصورٍ استراتيجيٍّ أعمق كثيرًا، وتضع الكرة في سلّة العرب قبل الموافقة الإسرائيليَّة عليها. القذافي، وغيره، ينسون أهمية المحيط العربي في إنجاح الفكرة، أي المسؤولية العربيَّة في دمقرطة الدول والمجتمعات العربيَّة وتحديثها وتزويدها بوسائل القوة الحضارية اللازمة، بما يؤمن ثقة العالم والإسرائيليين، والعرب أنفسهم، بقدرة المنطقة العربيَّة على تأمين مثل هذا الحلِّ وصونه وتلافي العيب الأزلي المتمثِّل بالتعامل مع اليهود بوصفهم غرباء في المجتمعات التي يقيمون فيها. هذا يعني أنَّ القضيَّة المركزية في المنطقة العربيَّة هي الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان والتنمية والحداثة، على النقيض ممَّا تروِّج له “الأنظمة الممانعة” و”المقاومات” السائدة.
لن يذهب الإسرائيليون إلى السلام فعلًا وهم يشعرون أنَّهم أقوى وأكثر تحضُّرًا. اجتياف إسرائيل أو ابتلاعها عربيًّا يتطلَّب أن يكون العرب أقوى حضارة وتأثيرًا وحضورًا. يصبح اجتياف إسرائيل وابتلاعها ممكنًا مع استراتيجيَّة عربيَّة تنشد عناصر القوة الحضاريَّة بمستلزماتها كافَّةً، وفي مقدَّمها تحديث البنية السياسيَّة بالديمقراطيَّة والعلمانيَّة، وتحديث التعليم بمناهجه وآليَّاته ومستوياته كافَّةً، وتحرير الاقتصاد من هيمنة السلطات وربطه بالعلم والمعرفة. فمع هذه العناصر يصبح إيجاد حلٍّ للمسألة اليهودية على أساس المواطنة، أي دمج اليهود بصفتهم أفرادًا لا بصفتهم دولة، أو من خلال ترتيب حكم ذاتيٍّ لمجموعة بشريَّة ترى أنَّ لها خصوصيَّةً من نوع ما أو أنَّ هناك ما يجمع بين أفرادها ويمايزهم عن الآخرين.
هذه رؤية استراتيجيَّة بعيدة المدى تتوافق مع حاجة العرب إلى تجديد رؤيتهم إلى أنفسهم والآخر والعالم، وإعادة بناء عروبتهم على أساس إنساني وثيق الصلة بالعالم والعصر والحداثة. وإن هم أفلحوا في الوصول إلى مستوى معقول من القوة الحضاريَّة يصبح في إمكانهم التحوُّل إلى قوة جاذبة، تُؤخذ عروضها ومقترحاتها في الحسبان، ولا سيَّما ما يتعلَّق بالحلِّ الإنسانيِّ الديمقراطيِّ للمسألة اليهوديِّة.